عاشت المحلات التجارية لبيع المواد الغذائية، خلال الأيام التي سبقت استقبال شهر رمضان، إقبالا كبيرا من طرف الراغبين في التزوّد بما يسدّ حاجتهم خلال هذا الشهر، إذ اكتظت أغلب الأسواق الكبرى والمتاجر المخصصة لبيع المواد الغذائية بالتقسيط والجملة، إضافة إلى ما سجّلته الدكاكين المنتشرة وسط الأحياء السكنية من ارتفاع الطلب على المواد الاستهلاكية قُبيل فاتح رمضان.
وإذا كان رمضان يتطلب نوعا من الاستعدادات المرتبطة بتوفير الحاجيات الضرورية للاستهلاك فإن مجموعة من الحالات تجاوزت الحدود العادية للتخطيط المسبق، ووصلت إلى درجة الإفراط في تخزين المواد الغذائية لاستهلاكها في شهر الصيام، ما يثير تساؤلات حول ما إذا كان التسوّق والاستهلاك نابعيْن من حاجة حقيقية لهما، أم إنهما مرتبطان فقط بسلوك نفسي واجتماعي.
ثقافة الاستهلاك المفرط
أناس ابن الشيخ، أستاذ الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع، قال إن “هذه الظاهرة ترتبط بثقافة الاستهلاك التي يعاد إنتاجها باستمرار من طرف المجتمع، وتظهر بشكل ملحوظ في أزمنة اجتماعية محددة، مثل الأعياد والمناسبات الاجتماعية، حيث يتعلق الأمر حسب تمثلات الفاعل أو الشخص الذي يقوم بهذا السلوك بزمن اللايقين والخوف من الندرة”.
وأضاف المتحدث ذاته، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “التشجيع على ثقافة الاستهلاك والتخزين المفرط تساهم فيه مؤسسات كثيرة، بداية من الأسرة ووصولا إلى المؤسسات الإعلامية، وذلك ارتباطا باقتصاد السوق الذي ينزع إلى الإنتاج والوفرة، وبالتالي تشجيع وتوجيه الأفراد إلى الاستهلاك بمستوياته المختلفة”.
وأوضح الأستاذ نفسه: “إننا في حاجة إلى وعي مجتمعي بالحاجات البيولوجية، بما يشمل طبيعة المواد المفيدة للجسم؛ كما أن إدارة كميتها وكيفية التعامل معها ستساعد على تجاوز ثقافة الحشد الموجهة نحو الاستهلاك المفتوح، في إقصاء شبه لا واعي للحس النقدي. إضافة إلى أن قيام المؤسسات الرسمية بتدبير حاجيات المغاربة وترجمة ذلك إلى معطيات كمية وكيفية واقعية سيعزز من ثقتهم في الاقتصاد الوطني، وعدم الخوف من فقدان المواد الاستهلاكية من السوق”.
وختم ابن الشيخ توضيحاته بالإشارة إلى أن “ذاكرة المجتمعات تستحضر بشكل دائم اقتصاد الكفاف الذي عرفته مختلف المجتمعات البشرية، حيث العيش على الندرة وتلبية الحاجيات الأساسية دون التفكير في مراكمة الإنتاج والثروة، ما ينعكس بشكل أو بآخر على أنماط وقواعد السلوك والخوف المستمر للأفراد من ضعف الإنتاجية والعيش في مجتمع الندرة، خاصة أن الأزمات والأوبة تعزز كذلك من هذه المخاوف وتعيد استحضارها في أذهان المجتمعات”.
رمضان بين العبادة والاستهلاك
محسن بنزاكور، أستاذ علم النفس الاجتماعي، قال إن “الإقبال على الاستهلاك في رمضان داخل المجتمع المغربي يمكن تحليله من منظور علم الاجتماع، إذ يرتبط مفهوم الاحتفال لدى المغاربة بتقديم أطباق متنوعة وإقامة الولائم، إذ تكون المائدة المغربية مليئة عند استقبال الضيوف في رمضان”.
وأضاف بنزاكور، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “شهر رمضان يحمل وظيفة دينية واجتماعية وثقافية لدى المغاربة، إذ ارتبط تاريخيًا بتقاليد غذائية خاصة مثل ‘الشباكية والحريرة والبريوات’ وغيرها، وهو ما يعكس طقوسًا مغربية للتعبير عن الفرح”، مشيرًا في الوقت ذاته إلى أن “التحول الذي طرأ في السنوات الأخيرة يتمثل في الانتقال من مفهوم الاحتفال المعتدل، القائم على القيم الدينية والاجتماعية، إلى مظاهر استهلاكية مفرطة”.
وأكد المتحدث ذاته أن “هذا التغير، من زاوية اقتصادية ونفسية، لم يعد مرتبطًا فقط باستقبال الضيوف أو مشاركة الفرحة بحدود الإمكانيات المتاحة، بل أصبح يعكس مظاهر التفاخر وعدم التحكم في القدرة الشرائية، إلى درجة أن البعض يلجأ إلى الاقتراض لمجاراة هذه النزعة الاستهلاكية”، مضيفًا أن “وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في تكريس هذا الفكر، حيث باتت صور موائد رمضان عنصرًا أساسيًا في المشهد الرقمي، ما عزز سلوكيات استهلاكية مَرضية وغير عقلانية وغير حضارية”.
وأشار أستاذ علم النفس الاجتماعي إلى أن “استقبال رمضان لم يعد كمناسبة دينية وثقافية ذات ضوابط وقيم، بل تحول إلى استهلاك غير مبرر لا يستند إلى أسس دينية أو ثقافية أو حضارية”، وزاد: “هذا الإفراط في الاستهلاك يعكس أزمة نفسية، إذ لم يعد الأفراد يمارسون سلوكياتهم بوعي ومسؤولية، بل باتوا يخضعون لضغوط مجتمع استهلاكي متزايد التأثير”.
تغيرات اقتصادية وصحية
وأفاد بنزاكور بأن “المؤشرات على هذه الظاهرة لا تتوقف عند الجانب الاقتصادي والاجتماعي فحسب، بل تمتد إلى الجانب الصحي، إذ يشير الأطباء المختصون في أمراض الجهاز الهضمي إلى ارتفاع عدد الحالات التي يعالجونها خلال رمضان، وهو ما يدل على الأثر السلبي لهذا النمط الاستهلاكي المفرط”، موردا أنه “إذا كان الإنسان لا يدرك أنه يضر نفسه فهذا يعني أنه فقد وعيه بالقيمة الحقيقية لرمضان”.
كما أوضح أستاذ علم النفس الاجتماعي أن “هذه التغيرات ليست عفوية، بل تعكس تحولات أعمق في الثقافة الاستهلاكية داخل المجتمع المغربي، حيث أصبحت العادات الشرائية تتحكم فيها الرغبة في التفاخر والمجاراة الاجتماعية أكثر من الحاجة الفعلية”، منبّهًا إلى أن “هذا التوجه يؤدي إلى تفاقم الضغوط المالية والنفسية على الأفراد”.
ولفت بنزاكور إلى أن “الحديث النبوي ‘كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به’ يمكن أن يكون دليلًا على أهمية إعادة التفكير في كيفية استقبال هذا الشهر، وبدلًا من جعله مناسبة للاستعراض ينبغي استعادة روحه الحقيقية، التي تتمثل في التقرب إلى الله، الإحساس بالآخر، وممارسة السلوك المسؤول”، مؤكدا على ضرورة أن يكون رمضان “مناسبة للعودة إلى التوازن، لا وسيلة للغرق في الاستهلاك غير المبرر”.
0 تعليق